روسيا وسياسة الغموض في الشرق الأوسط

يبدو أن السياسة التي انتهجها الرئيس باراك أوباما مع موسكو تسير في اتجاه قطف ثمارها لاسيما بعد إلغائه مشروع الدروع الواقية من الصواريخ وتوقيعه معاهدة “ستارت 2” . وإذا استمرت العلاقة الروسية-الأمريكية في التحسن فالخاسر الأكبر سيكون إيران على الأرجح، وهذا ما يتبدى من خلال الموقف الروسي الموافق على العقوبات الأمريكية المزمعة على طهران من خلال مجلس الأمن الدولي . ففي 27 إبريل/نيسان الماضي وقع الرئيس ديمتري ميدفيديف مع رئيس الوزراء الفنلندي جينز ستولتنبرغ إعلاناً مشتركاً في أوسلو يطالب طهران بالتصرف ب “مزيد من المسؤولية” و”القيام بالمزيد من الجهود من أجل الاستحواذ على ثقة المجموعة الدولية” في ما يتعلق بملفها النووي، قبل أن يضيف وزير الخارجية الروسي بعد ذلك أن الاتفاق الإيراني- التركي- البرازيلي ليس كافياً في هذا المجال، بمعنى أنه ينضم للتفسير الأمريكي له .

والحال أن روسيا لم تدعم البرنامج النووي الإيراني بشكل علني في يوم من الأيام، بل إنها صوتت الى جانب العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على طهران حتى اليوم، وإن أسهمت بالتخفيف منها . لكن الوضوح الذي تبديه اليوم جديد بالمقارنة بسياسة الغموض التي تتبعها منذ سنوات والتي لا تتوقف عند الشأن الإيراني بل تطال كل قضايا الشرق الأوسط . فهي تبحث مع سوريا وإيران بيعهما صواريخ وأنظمة دفاعية متطورة وفي الوقت نفسه تشترك مع “إسرائيل” ببرامج صناعات تكنولوجية وتعاون عسكري وتستقبل وفوداً من حركة حماس .

لقد سعى بوتين إلى استعادة مركز بلاده كقوة عظمى دولية، ساعده في ذلك ارتفاع أسعار النفط والمواد الأولية . وقد اتبع عدة استراتيجيات لتحقيق هدفه . في الشرق الأوسط عملت روسيا كقوة إزعاج وإعاقة للمشاريع الأمريكية . أما في محيطها المباشر فلم تتردد في استخدام القوة العسكرية كما في العام 2008 ضد جورجيا والضغوط الاقتصادية عندما توقف شحن الغاز والنفط الى بعض الدول المجاورة . ومع إيران ذهبت الى حدود دعم برنامجها النووي عملياً وحمايته من الضغوط الغربية عبر الاعتراض على العقوبات قبل التفاوض بشأنها ثم الموافقة عليها مخففة بعد أن تكون قد ابتزت إيران (كما فعلت بخصوص التردد بتزويد مفاعل بوشهر بالماء الثقيل) . وثمة ثلاثة عناصر تسمح بفهم السياسة الروسية في الشرق الأوسط:

أولها ضمان وحدة الأراضي الروسية، وهذا ما فعله بوتين عندما استخدم القوة العسكرية في الشيشان وصولاً الى ارتكاب أبشع المجازر هناك في سبيل تحقيق هدفه بوضع حد للحركات المعارضة في شمالي القوقاز . لا تشعر الفيدرالية الروسية بالثقة بنفسها التي كانت لدى السلطة الشيوعية لجهة السيطرة على الإمبراطورية المترامية الأطراف، لذلك تركز الجهد على المحيط المباشر(أوكرانيا وروسيا البيضاء وآسيا الوسطى وجنوبي القوقاز وجورجيا) وعلى الجمهوريات الانفصالية مثل الشيشان، وذلك على حساب الجيوبوليتيك الأبعد، ومنه الشرق الأوسط . وهي عندما تبدي اهتماماً بالعالم الإسلامي، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، فهي تأخذ في الاعتبار مشاكلها الداخلية لاسيما مع الإسلام الروسي تحديداً وإسلام الجمهوريات القريبة المجاورة .

تقرّب بوتين من العالم الإسلامي هدف إلى إقناع الدول الإسلامية بوضع حد للدعم المعنوي والمادي الذي تقدمه منذ وقت طويل إلى الانفصاليين المسلمين في الشيشان وغيرها، وقد حصل على ذلك إلى حد كبير عبر طريقتين: مغازلة الجمعيات الإسلامية الروسية عبر دعمها مالياً والعمل على جعلها أكثر ولاء للحكومة الفيدرالية وأكثر مقاومة لدعايات أفكار المؤسسات الدينية الخارجية . والوسيلة الثانية: إقناع العالم الإسلامي بالصداقة التي تكنها له روسيا إلى درجة أن بوتين أعلن أمام قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في طهران العام 2003 أن روسيا بلد إسلامي كونه يضم عشرات الملايين من المسلمين .

في الحقيقة منذ تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 تبنت روسيا خطاب بوش الداعي إلى قيام حرب عالمية على الإرهاب، وتمكنت من استغلاله للقضاء على الشيشان . وكانت النتيجة أن الانتقادات الغربية بشأن السلوك الروسي في الشيشان توقفت فجأة في حين أن العالم الإسلامي شعر بالغضب لكنه غضب توقف إثر الحرب الأمريكية على العراق والموقف الروسي المعارض لها . أخذ العالم الإسلامي يركز النظر على بغداد وتراجعت غروزني الى خلف الصورة، وعاد الخطاب الروسي المعادي للولايات المتحدة الى التصاعد في وقت أخذت موسكو تحسن علاقاتها بالعرب والمسلمين الرافضين للهيمنة الأمريكية ومشاريع فرض الديمقراطية الليبرالية بالقوة العسكرية . أخذت روسيا تبرز نفسها كقوة أوراسية تضم ملايين المسلمين منذ قرون طويلة وقادرة على درء مخاطر صدام حضارات كونها جسراً بين القيم الغربية والشرقية .

المفتاح الثاني للسياسة الروسية في الشرق الأوسط هو الاقتصاد الذي لم يكن يحتل مكان الأولوية في سياسات الاتحاد السوفييتي السابق . فقد أعلن رئيس الوزراء الروسي ايفانوف في العام 2008 أن روسيا التي لم تعد تصدر الإيديولوجيا ترغب في تصدير الأعمال . والعقود تتناول مجالات مثل الأسلحة والطاقة والذرة والتي أضحت سبباً للتوتر مع المنافسين الأوروبيين والامريكيين الموجودين في المنطقة منذ عهود طويلة . لقد أضحى الجيو-ايكونومي متقدماً على الجيوبوليتيك . والدول العربية التي يحاصرها ويقاطعها الغرب أضحت أسواقاً مغرية للروس . هذا لا يمنع من تعزيز العلاقة في الوقت نفسه مع أعداء الاتحاد السوفييتي السابقين مثل “إسرائيل” . زيارة بوتين إلى القدس في العام 2005 كانت الأولى من نوعها منذ ولادة الكيان الصهيوني وقد فتحت السبيل أمام علاقة جديدة في مجالات محاربة الإرهاب وإنتاج الأسلحة والأبحاث الفضائية . و”الإسرائيليون” يقدمون كيانهم على أنه بلد يتحدث الروسية بسبب وجود عشرين في المائة ممن يتحدرون من أصل روسي مثل وزير الخارجية الحالي المتطرف ليبرمان .

ومع دول الخليج العربية لاسيما قطر والسعودية التي زارها بوتين في العام 2007 عرض إنشاء منظمة أوبك خاصة بالغاز، ووقّع معها عقوداً بعشرات المليارات من الدولارات .

المفتاح الثالث لفهم السياسة الروسية في الشرق الأوسط هو انتهاء المواجهة الإيديولوجية إلى غير رجعة ما يسمح لموسكو بممارسة سياسة براغماتية بحسب الظروف . فاللهجة المتشددة حيال الولايات المتحدة منذ العام 2002 كانت تهدف إلى حماية روسيا من التدخلات الأمريكية في المحيط الروسي المباشر(توسيع حلف الأطلسي بضم جورجيا، وأوكرانيا) . حينها حرصت روسيا على إزعاج أمريكا في غير ملف دولي لاسيما الشرق الأوسط حيث تتزاحم الملفات وتسعى أمريكا إلى الهيمنة . ففي عز احتدام الأزمة الجورجية في العام 2008 استقبلت موسكو بشار الأسد وسمعت منه العرض باستقبال الأسطول الروسي في طرطوس والطلب تزويد سوريا بنظم دفاع روسية مضادة للطائرات وللصواريخ . وانتشر خبر عزم موسكو تزويد إيران بصواريخ إس- 300 .

يمكن القول إن روسيا في الشرق الأوسط تمارس سياسة توازن بين متخاصمين فتحاول أن تقول انها صديقة للجميع، وإن الإيديولوجيا لم يعد لها مكان في سياستها الخارجية، إذ إنها أضحت رأسمالية ديمقراطية ولو على طريقتها . وفي حين أن واشنطن كانت تسعى الى تغيير الأوضاع رأساً على عقب في هذه المنطقة، فإن روسيا تفضل الإبقاء على “الستاتيكو” . وهذا ما يجعل منها لاعباً مهماً وصعباً لمن يريد مقاربة متعددة – الأطراف لحل النزاعات في هذه المنطقة من العالم .

About the Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You may also like these

No Related Post