المصري.. ما بكاء الكبير بالأطلال

كنت مساء أمس من بين الجمهور المحتشد لسماع دولة الاستاذ طاهر المصري في منتدى شومان، بدا الجمهور متشوقا لسماع شهادة سياسي أردني بدأ عصاميا وظل حتى الآن يبني سيرته السياسية باشتباك ايجابي مع السياسي المنتصب في وظيفته، والشعبي الناقم على السياسي، وبين هذا وذاك ظل طاهر المصري بندول التوازن بين خندق الرضا ومتاريس الغضب.
بالأمس بكى المصري مرتين وهو يرسل رسائله المباشرة عن الاصلاح السياسي، وعن رحلة الأفكار والنصائح، حين استذكر الراحل الحسين، وحين استعاد كلمة وداعه لمجلس الأعيان، ولا اظن الرجل يبكي نكوصا واستدعاءا لعصر مضى، بقدر ما كان يستحضر سلسلة خسارات لم تسمح للسياسي بالتفكير ولو قليلا للأخذ بنصائح لو تم الأخذ بها لما وصل الحال بنا الى ما وصلنا اليه.
كان المصري يقول ذلك بوضوح من خلال النصوص التي قرأها من رسائل استرشدت بسياسة النصح استشرافا للمستقبل، وكأنه يقول”قلت هذا ومارسته لكنه صوتي الذي ظل ناطقا في الهواء ولم اسمع رجعه على الأرض..”.
حين حشرج المصري في رحاب استذكار الحسين قفز لذهني فورا ما قاله أعشى ميمون:
ما بُكاءُ الكَبيرِ بِالأَطلالِ .. وَسُؤالي فَهَل تَرُدُّ سُؤالي
رددت البيت في نفسي مرتين، وسرحت في المعنى، في الهاجس الذي يضغط على شخص مثل طاهر المصري ليترك دمعه يتحدر عاطفة، وحزنا ، وشوقا، معلنا بأنه يتحمل بعضا من مسؤوليات كانت سببا فيما آلت الأوضاع اليه هذا الأوان..
لم ينكر أو يتنكر، ولم يذهب لنفض الجراب ليوجه سهام نقده لمن وقفوا ضده بالأمس، بالرغم من ان الجمهور كان يتشوق لمعرفة خفايا موقف الاخوان المسلمين من حكومته سنة 1991، وخفايا مواقف آخرين مثلوا قوة الشد العكسي التي نجحت بوضع عصيها في دواليب حكومة أنجزت الكثير من الإصلاحات في خمسة أشهر، رافضا حل مجلس النواب لينجو بحكومته لكنه آثر خسارة حكومته ليبقى مجلس النواب، وحتى لا يتم إغتيال التجرية الديمقراطية الوليدة.
بالأمس كشف طاهر المصري عن سر من أسرار السياسة الأردنية لم يتوقف أحد عنده ومر مرور الكرام على مسامع الحضور حين قال إن لقاءه بالملك الحسن الثاني حين كان وزيرا للخارجية هو الذي جعل الاردن يركب في عربة مدريد، مضيفا ان الملك الحسن الثاني حمله رسالة لـ”ابن عمه ” المرحوم الملك الحسين قال له فيها ان المؤتمر الدولي الذي تنادون به انتهى والقطار يمشي على سكته ومن لا يصعد اليه سيخرج من المعادلة الجديدة.
من هنا بدأت اللحظة الفارقة في مسيرة المنطقة والاقليم، وهو سر يبوح به المصري لأول مرة ــ على حد علمي ــ ، لكن هذا السر ينطوي على عشرات التفاصيل والأسرار التي أبقاها المصري حبيسة خزانته السياسية، مؤثرا الإضاء قليلا على خزانة مليئة بالأسرار لو أطلقها على غاربها لأثارت زوابع من الرضا والغضب.
ظل المصري وفيا لديمقراطيته وانحيازه لحكم الشعب، وملتزما بيقين المؤمن بلا تردد بضرورة الإصلاح السياسي الذي يتقدم في رأيه على الإصلاح الاقتصادي بخطوة أو خطوتين لكنهما يتلازمان في نهاية المضمار كفرسي رهان يؤثران في المجتمع وفي البيئة وفي السلوك الإجتماعي ويغيران ويصلحان.
من استمع للمصري أمس وصل لنتيجة واحدة هي أن مسيرة الاصلاح السياسي ظلت تعاني من التعثر على مدى أكثر من عقدين مضيا، وظلت مشاريع الإصلاح السياسي تراوح مكانها بالقدر الذي كانت تتراجع فيه وفي احيان كثيرة للخلف بدلا من قفزها للأمام.
لم يرفع المصري راية الإستسلام للواقع ولسلسلة الإخفاقات الإصلاحية وظل على منبره حتى اليوم ينشط ويكتب ويخطب ويحاضر ويحاور فلا يزال يؤمن بان فكرة الإصلاح السياسي لن تموت، فقط تحتاج لمن يرعاها بالسقيا وبالرعاية ويبقيها نداءا صارخا في البرية وتحت عين الشمس..
ومنذ الأمس وأنا أترنم..
ما بُكاءُ الكَبيرِ بِالأَطلالِ .. وَسُؤالي فَهَل تَرُدُّ سُؤالي