تحمل البتراء الأردن بعدما حملها قرونا لتضعه في مصاف الدول السياحية التي تنعم بهذا التراث المهم الشبيه بالنفط من حيث عائداته المالية. البتراء ليست جديدة في هذا البلد العريق وهي لم تطل إلى الوجود بشكل فجائي، الجديد هو الإيمان العالمي بأن منطقة بلاد الشام تعوم على خيرات التراث العالمي بكل أديانه وايماناته، فمن هذه المنطقة خرجت الأديان كافة ومنها شع النور الإلهي الذي بدد ظلام البشر وأودعهم الطريق السليم الصحيح.
هنيئا للأردن المضياف في طلته على العالم واختراقه المناخات السائدة بقوة الحضور العربي الذي مثله الأنباط بناة البتراء منذ آلاف السنين.. ذلك العقل المتوثب للحياة وللمعرفة هو من انتج تلك الأمثولة النادرة في حفر الصخر وفي ترتيب سبل العيش وفي إقامة نصب العدالة لرعاية حقوق الإنسان والمسارح من اجل الثقافة والترفيه وفي الطريقة المثلى والنادرة لسيل الماء الذي كان يأتي من الآبار، بل لعالم دهشة المفاجأة الذي تحدثه تلك الخزنة الواقعة وراء كم هائل من الصخور التي تحجبها عن الرائي.
وهنيئا للعرب بإعلان البتراء إحدى العجائب الجديدة، تماما مثلما هي حال أهرامات الجيزة في القاهرة المحروسة. منذ زيارتي للبتراء قبل عشر سنوات حادثت نفسي حول هذه الأعجوبة التي لم يكتشفها العالم بعد وان كان سيل السياح إليها لا يتوقف. اعتقدت يومها ان بإمكاني إجراء مكالمة مع ذلك المكان المشع في تراثه وفي حضوره الأخاذ وفي قيمه الجمالية التي ابتدعها إنسان ذلك الزمان.. ”كانت المكالمة طويلة فيها من التهنئة للبناة الأصليين الذين لم يكونوا ليعرفوا انهم سيصبحون يوما ضمن العجائب وقد قلت يومها على ما اذكر أن البتراء هي أكثر الأماكن في العالم سحرا وليس لها مثيل أو شكل مماثل”.. ومن يومها وأنا أحادث الأصدقاء المسؤولين عن السياحة الأردنية من ان البتراء أبرز الآثار الشاملة غير المنقوصة الباقية في هذا الكون، هذا إضافة إلى الطريقة التي صنعت بها حتى جعلت منها مدينة ماثلة في الصخر مما ينبيء عن الأسلوب العلمي الذي عاشه أجدادنا العرب الأنباط إبان حكمهم لتلك البقعة من المنطقة.
ان كل فرح أردني بهذا الإعلان معني بالثروة الوطنية لبلاده وبكل ثروة عربية مشابهة سوف تنطلق يوما لتكون أعجوبة من أعاجيب العالم.. فالأفكار تتجدد، والنظرة إلى مفهوم الأعجوبة يتجدد أيضا، والعرب أساس في صنع الحضارة، بل هم أكثر من ترك وراءه هذا الكم الضخم من المآثر الحاكية عن علمهم وفنهم وقيادتهم للمنطقة في ظروف شتى. أينما قلبت النظر ستجد معلما إسلاميا له قوانينه الفنية والمعمارية الذي لم يقتصر على منطقتنا وحدها بل إلى اسبانيا التي تعتز اليوم بتلك الشواهد العربية الإسلامية، وهي التي تجلب لها تلك الإيرادات الضخمة حتى قيل ان الدخل القومي من السياحة الاسبانية بين تلك المآثر يفوق الخمسين مليار دولار.
تدخل البتراء بوابة العلم والخبر بكونها الأعجوبة الثانية في الترتيب الجديد للأعاجيب. أي انها محل توثيق متقدم واحترام رجالات الفكر والتاريخ والجغرافيا وغيره من الشعوب.. مطلوب اذن من الأشقاء العرب كافة ان يعربوا عن تضامنهم مع الأردن بالرحيل إلى ذلك المكان الهام من اجل التمتع والتثقف والترويح عن النفس والتضامن.
تتعانق البتراء الأردنية والأهرامات المصرية في مشهد تقاسم القيمة المعنوية والتاريخية لبلادنا الطيبة.. ومثلما كانت الأهرامات ظاهرة حاضرة في نسيج التراث العالمي تضيف البتراء قيمة الحب لهذه الأرض التي تشهد دائما على حضورها الأخاذ في دعم التراث العالمي وإعطائه قيمة ومعنى. فلا معنى بدون البتراء والأهرامات ولا جدوى من توصيف أي شاهد إذا لم تكن البتراء والأهرامات في ابهى صوره.
البتراء حلم من أحلامنا الجميلة، تماما مثل صخورها الوردية التي لم يغيرها الزمان ولا هي أعارت فتنتها لأي مكان آخر في العالم.
عندما أفقت من حلم المشاهدة يوم رأيت تلك المدينة الوردية بكل مفاتنها وحرارة حضورها حتى كأنها صنعت البارحة، كان علي ان أكمل حلمي البعيد لأكمل هاتفي معها فنسترجع معا سحر اللحظات التي كانت تبنى فيها المدينة لتغوص في التاريخ كأبهى معادلة خطتها يد البشر. الهاتف مستمر حتى في حالات اليقظة، فالبتراء لمن يراها عن قرب هي الواقع المجبول بحلم لا تفيق منه كلما أوغلت في نسيجه.